بحث في أعداد المجلة
الجملة  
المؤلف   
 

المجلد 6 , العدد 8 , صفر 1434 - كانون الثاني (يناير) 2013
 
اسـتهلاليـة

    لقد أثرت الحضارة العربية الإسلامية على التراث العلمي وعلى العلوم كافة، فلم يقتصر دور العرب على نقل العلوم وآلة الطباعة وصناعة الحبر من حضارات الصين والفرس وبلاد الرافدين الى العالم الغربي، حتى أن علوم الإغريق نُقِلت بوساطة العلماء العرب الذين ترجموا وفسروا وصنفوا تلك العلوم وأضافوا إليها الحواشي والكثير من نتاج فكرهم النير، ولولا العرب لبقيت أوروبا في العصور المتخلفة السوداء.
ومن ناقلة القول أن دار الحكمة في بغداد كانت منارة للعلم وأعظم مكتبة في عصرها، وعندما استولى البرابرة على روما في العام 476م انهارت تلك الامبرطورية التي حكمت في أوج قوتها نصف العالم في زمن القيصر ماركوس أوريليوس ودخلت أوروبا في عوالم من الجهل والتخلف، إلا أن أوابدها التاريخية بقيت شاهداً على عصر تميز بالابداع الفكري والعلمي والعمراني.
في هذه الفترة بلغت العلوم العربية أوجها في بغداد، ونشطت حركة الترجمة والتأليف وكانت دار الحكمة في بغداد موئلاً للعلماء والأطباء وكان الخليفة المأمون يعطي وزن الكتاب ذهبا لمؤلفه. وتنامت هذه الحركة واتسعت مع قيام الخلافة الأموية في الأندلس وشجع الخلفاء والأمراء العلم والعلماء وأغدقوا عليهم المال لاستقطابهم.
احترم العرب الفاتحون تراث هذه البلاد وعادات أهلها وتقاليدهم وحافظوا على المكتبات والتراث العلمي وبدأت حركة الترجمة والتأليف واتسع نطاقها حتى بلغت ذروة الإبداع، فكتاب القانون لابن سينا بقي الكتاب الأوحد في الطب وإنجيل الأطباء واشتهر جب الرهوي الطبيب ببلاط المأمون ببراعته في الترجمة، حيث عكف على ترجمة مؤلفات جالينوس إلى اللغة السريانية. وفي الأعوام 685-705م أمر الخليفة عبد الملك بن مروان بأن تحل اللغة العربية لغة رسمية بدلاً عن اللغات الأخرى. وانتشرت بعدها اللغة العربية الفصحى في كافة أرجاء الدولة العربية الإسلامية فكتب ابن سينا والرازي وكوهين العطار مؤلفاتهم جميعها باللغة العربية.
لقد اعتمد الطبيب في العصور الغابرة على حذاقته ومهارته واتساع آفاقه ودقة ملاحظاته ثم هداه تفكيره السليم الى فحص مخلفات الانسان من قشع وبراز. ولقد ورد في سفر الفيداس المقدس الهندي أول ذكر لبول مريض السكري، حيث اعتمد الكشف على البول السكري بوضعه على كمية من الرمل فيلاحظ انجذاب النمل اليه. وأخذ تحليل البول يكتسب أهمية في اقناع المريض بجدواه ويذكر أبو بكر الرازي أهمية التفسرة (وهي قارورة البول وكلمة التفسرة، أتت من الفَسْر، أي البيان وفَسَر الشيء يفسِره، بالكسر، ويفسُره، بالضم، فَسْراً وفسْرة: أبانه) قائلا (أظهر لي الناس ضروباً من الاحترام وكثيراً من الحرص والاهتمام عندما أطلب التفسرة ولما عزفت عن طلبها قل شأني عندهم)، وجاءه فارس من خراسان ينفث دماً وظن الرازي أن مريضه مصاب بآفة في الرئتين لوجود القشع المدمى، لكن العلامات السريرية لم تكن تشير الى ذلك فسأله إن شرب من مياه آسنة أثناء سفره فاستمهله لليوم التالي، وأتى بقليل من الطحالب وأرغمه على ابتلاعها حتى تقيأ، ولاحظ وجود علقة كانت السبب في القشع المدمى.
أما ابن سينا فله الفضل في تعريف الداء السكري حيث ورد في قانونه، أن الماء يخرج كما شرب بسرعة وفي تعريفه البول: يدل على حال العروق والكلى والمثانة ومجاري البول والإحليل، وفي وصفه البول اليرقاني يقول (وأما في اليرقان فكلما كان البول أشد حمرة حتى يضرب إلى السواد ويصبغ الثوب صبغاً غير منسلخ، وكلما كان كثيراً فهو أسلم، فإنه إذا كان البول فيه أبيض أو كان أحمر قليل الحمرة واليرقان بحاله، خيف الاستسقاء والجوع، مما يكثر صبغ البول ويحدّه جداً، فاشتداد حمرة البول وزيادة مقداره دليل سلامة الحالة، أما إن كان لونه أبيض أو أحمر واستمر اليرقان فهو دلالة على خطورة وضع المريض). ولقد ميز ابن سينا بين بول الرجل وبول المرأة بقوله، بول النساء على كل حال أغلظ وأشد بياضاً وأقل رونقاً من بول الرجال، وذلك لكثرة فضولهن، وضعف هضمهن، وسعة منافذ ما يندفع عنهن، ولما يتحلل إلى آلات أبوالهن من أرحامهن. ثم اعلم أن بول الرجال إذا حركته فكُدِّر، مالت كُدْرَته إلى فوق، وهو في الأكثر يكدر. وبول النساء لا يكدره التحريك لقلة تَميُّزه، ويكون في الأكثر على رأسه زبد مستدير، وإن تكدر كان قليل الكدر. وبول الرجل على أثر جماعه فيه خيوط منْتَسِج بعضها في بعض).
ومن الطرائف التي وردت في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة للتمييز بين بول ابن آدم وبول الحيوان، ما جرى بين الخليفة هارون الرشيد والطبيب بختيشوع بن جورجس فقال الرشيد لبعض الخدم: »أحضر ماء دابّة حتى نجربه«. فمضى الخادم وأحضره قارورة الماء. فلما رآه قال: »يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان«. قال له أبو قريش: »كذبت هذا ماء حظية الخليفة«. فقال له بختيشوع: »لك أقول أيها الشيخ الكريم لم يبل هذا إنسان البتة، وإن كان الأمر على ما قلت فلعلها صارت بهيمة«. فقال له الخليفة: »من أين علمت أنه ليس ببول إنسان«؟ قال له بختيشوع: »لأنه ليس له قوام بول الناس، ولا لونه ولا ريحه«.
أيها الزملاء الأعزاء تجمعنا هيئة مهنية علمية تمتد جذورها الى أعماق تاريخ الإنسانية منذ أول خفقة فؤاد ودفقة دم، لنعمل على مد جسور التلاقي بين ماضينا التليد وحاضرنا الذي يأخذ ألقه من تاريخ أعلام الطب العربي في عصر النهضة العلمية عصر ابن سينا والرازي.

 
دمشق ـ كانون الثاني (يناير) 2013  
الأستاذ الدكتور أحمد سمير النوري
رئيس الجامعة العربية الدولية الخاصة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المجلد 6 , العدد 8 , صفر 1434 - كانون الثاني (يناير) 2013

 
 
SCLA